logo
الأرشيف السوري
logo
الأرشيف السوري

BLOG

التوثيق والأرشفة ودورهما في تحقيق العدالة وكتابة السردية

اطبع المقال

أفرز السياق السوري، منذ بدء الحراك الشعبي منتصف آذار 2011 مروراً بمراحل وتحولات مختلفة رافقته خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية، كمّاً هائلاً من الوثائق، فاقت ساعاته ساعات النزاع نفسه. هذا الكم من المواد المرئية والمسموعة والمقروءة لم يكن من إنتاج صحفيين ودور إعلامية فحسب، بل إن معظمه كان من إنتاج مواطنين وجدوا أنفسهم فجأة في ساحات حرب غير متكافئة، فكانت كاميرات هواتفهم وسيلتهم لإيصال صوتهم للعالم، بمواجهة إعلام الصوت الواحد.

لم تكن مصادفة، اعتماد الناشطين والمواطنين الصحفيين على وسائل التواصل الاجتماعي، فيسبوك خصوصاً في الحالة السورية خلال السنوات الأولى، فقد كان استخدام فيسبوك في السنوات السابقة للنزاع السوري رائجًا من قبل الشباب، وتطور التعامل معه بعدها كمنصة للتنسيق والتنبيه ونشر الأخبار والمواد المرئية، لسهولة استخدامه وقلة تكلفته ووصوله إلى أعداد كبيرة من الناس، بعيدًا عن المسموح والممنوع في المؤسسات الإعلامية الرسمية وأيديولوجياتها، من هنا تحول الأرشيف الفردي من الخاص إلى العام، وبدا كل حساب وكأنه مؤسسة مصغرة.

حوّل هذا الاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي من مجرد منصات تواصل إلى أراشيف فردية لتجميع المحتوى البصري، إلا أن أصحابها لم يكونوا يتمتعون بالتدريب اللازم للحفاظ على المحتوى والتدقيق فيه، ما تسبب في حذف الكثير من المحتوى الهام. ويعود فقدان وحذف المحتوى إلى أسباب عديدة، من أبرزها ممارسات طمس الأدلة من قبل مرتكبي الانتهاكات -كما حدث في تفجير مستشفى الكهف من قبل الحكومتين السورية والروسية، على سبيل المثال، أو في حوادث استُخدمت فيها أسلحة كيماوية - إضافة إلى سياسات مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات في حذف المحتوى العنيف، استهداف أو إغلاق المؤسسات الإعلامية، اعتقال صناع المحتوى أو موتهم وإغلاق صفحاتهم، تلف الأجهزة المحمولة و الأقراص الصلبة الخارجية، حملات التبليغ الممنهجة، وضعف القدرة المالية لأرشفة هذا المحتوى في سحابات إلكترونية أو عدم الثقة. rect2

حتى مارس/ آذار 2023، لم يعد 217 حساب تويتر متاحًا، وذلك من أصل 1751 حساب تويتر يحفظ الأرشيف السوري محتواه. أما يوتيوب: فمن بين 4226 قناة يحفظ الأرشيف السوري محتواها لم تعد 418 قناة متاحة على الإنترنت، وأزيل نحو 443,111 مقطع فيديو من المقاطع المؤرشفة لدى الأرشيف السوري. ناهيك عن منصات أخرى مختلفة مثل فيسبوك والتي لا نملك إحصائية عن حجم المحتوى المحذوف فيها. وقد كان لحذف المحتوى وفقدانه أثره السلبي على أرشفة المحتوى والتحقق مما حدث. في الحالتين، سواء كان يخص المساهمة في بناء الأدلة للتقاضي، أو السردية التاريخية حول ما جرى في ذلك الوقت. إن أهمية وحجم المواد المنشورة من قبل الناشطين بشكل عشوائي على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، وخوارزميات إزالة المحتوى المستمرة على هذه المنصات، جعلا القائمين على إبراز هذه الوثائق أمام تحديات كبيرة، أهمها عملية الحفظ والتوثيق.

زاد ذلك كله من أهمية صناعة الأرشيف كضرورة ملحة لجمع، صون، معالجة، تثبت، والتحقق من هذه المواد لاستخدامها لاحقًا في التحقيقات التي تجريها المنظمات الإنسانية والصحفيون والهيئات الأممية وآليات المساءلة، بشأن الجرائم الدولية وانتهاكات حقوق الإنسان، في ظل كثرة الحوادث وصعوبة الوصول والتحقق من قبل هذه الجهات على الأرض السورية.

استدعت العلاقة الوثيقة بين بناء الوثائق والأرشفة وجودهما معاً، أحياناً تسبق إحداهما الأخرى، لكن كل منهما تستدعي وجود الأخرى دائماً. ولا نقصد ببناء الوثائق هنا تصوير مقاطع الفيديو أو كتابة الأخبار والتقارير وما أنتجه آلاف الصحفيين والمواطنين الصحفيين، حتى الأشخاص الموجودين في المكان ونقلهم لما حدث فقط، لكن الأمر يتعدى ذلك إلى تحويل هذه المواد إلى وثائق منظمة ومرفقة بوسوم تحليليّة بعد أن كانت موادًا عشوائيّة على الإنترنت تفتقر في معظمها لبيانات وصفية تمكّن من الاعتماد عليها بحالتها الأولى. تمثّل هذه العملية العمود الفقري لمفهوم الأرشفة، وتتيح وصولاً سلساً لتلك المعلومات وإنتاج قواعد البيانات ما يضمن دقة المعلومة والتوثق منها، وسهولة البحث والوصول، وقبل ذلك الحفاظ على هذه الوثائق بمأمن من الضياع والتلف والحذف. جمع الأرشيف السوري، خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية محتوى ما يزيد عن 5 آلاف مصدر في مختلف مناطق النزاع السوري، وصان أكثر من 4.5 مليون مادة، ما بين نص وفيديو و صورة. يعتمد الأرشيف السوري على هذه الخزينة لإنتاج قواعد البيانات، تحليل بعض الحوادث البارزة والتحقيق فيها بعمق، إضافة للاستجابة للطلبات والعمل القانوني، لمشاركة مواد يحفظها الأرشيف ولم تعد متوفرة على الشبكة و مرتبطة بشكل مباشر بانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.

ما تزال هذه الأرقام في تزايد مستمر، وهي لا تصوّر سوى جزء مما يجري في سوريا، إذ تحتوي شبكة الإنترنت أضعاف هذه الأرقام من المواد غير المؤرشفة والمهددة بالحذف أو الفقد في أي لحظة، وهو ما يجعل مشاريع الأرشفة في سباق مع الزمن للعثور على هذا المحتوى وحفظه قبل فقده للأبد. هناك حوادث فقدت المحتوى الذي يوثّق وقوعها بشكل كامل، لم يعد الوصول إليها ممكنًا حتى من قبل منشئي المحتوى أنفسهم. أحداث أخرى محتواها الرقمي موجود على الانترنت لكن بحجم أقل من المحتوى الأصلي الذي كان متوافراً. ومع صعوبة أو استحالة الوصول إلى المحتوى المفقود وغياب الشهود والنسيان تضيع ملامح من تاريخ يحاول الأرشيف أن يبقيه حيًا بإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

تبدو سوريا اليوم، بعد اثنتي عشرة سنة، ساحة للصراع في مختلف مناطقها، إذ لا يكاد يخلو يوم من انتهاك، ومع التطور الجاد في عمليات التوثيق والأرشفة سواء الشخصية أو المؤسساتية هناك سرعة أكبر في عمليات الحذف والتبليغ وتمييع الأدلة والوثائق، ما يفرض تحديات أكبر في الحفاظ على هذا المحتوى أو استرجاعه خوفاً عليه من الضياع أو التلف. إن هذا التآكل المستمر والسريع للمحتوى يضع الجميع أمام التزامين، قانوني، في محاولة توثيق ما حدث والحفاظ على الأدلة على مرتكبي الانتهاكات، وأخلاقي يضمن توثيق السرديات التاريخية على تنوعها، ورفدها بما يضمن عدم التلاعب بها في حرب السردية السورية الواحدة، ذلك أن الأمر لا يتعلق فقط بالماضي، لكنه يتعلق بشكل جذري بالمستقبل وأدواته وآلياته.

تواصل معنا إذا كنتَ أو مؤسستك الإعلامية ممّن تأثّروا بإزالة المحتوى على “يوتيوب” أو “فيسبوك” أو غيرها من منصات وسائل التواصل الاجتماعيّ، أو كنت بحاجة إلى المساعدة في أرشفة الوثائق بأمان. على info@syrianarchive.org

logo

الأرشيف السوري

الأرشيف السوري هو مشروع مستقل تمامًا، لا يقبل الدعم المالي من الحكومات المتورطة بشكلٍ مباشر في النزاع السوري. نسعى للحصول على التبرعات من الأفراد لنتمكّن من الاستمرار بعملنا. يمكنكم دعمنا عبر صفحة باتريون الخاصة بالمشروع.

تبرّع
Mnemonicالأرشيف السودانيالأرشيف اليمنيukrainian archive
اشترك بقائمتنا البريدية